قصة قصيرة / عابد على طريق الرذيلة / للكاتب جبار القريشي / العراق ,,,,,,,,,,,,,,,,
- وهاب السيد
- Feb 7
- 4 min read

قصة قصيرة
عابد على طريق الرذيلة.
جبار القريشي.
لم ينم ليلته هانئا، كان يتقلب على فراشه كمن يشكو آلاماً في معدته.
كانت قد أرقته كثيراً كلمات صديقه، واستوطنت أحداثاً وصوّراً ومشاهد حيّة في مخيلته، أوقدت ناراً متأججة في أعماقه لم يكن قد اكتوى بمثلها من قبل، كانت تتوقد أحياناً كعود ثقاب، سرعان ما تنطفئ، ولكن ليس كما هي الآن، حاول جاهداً أن يطردها من مخيلته لكنه لم يفلح.
إنها لحظات لا تحسب من العمر، هكذا بدء زميله الحديث، لم تكن امرأة عادية، حورية تشتهيها الروح، وجمالها فوق الوصف، كانت تبدو بشعرها الأشقر السارح، ووجهها الضاحك كقطعة حلوى لذيذة، ترقص كقطة وديعة، وضحكاتها تنثر في أعماق الروح وروداً أخاذة، أنفاسها كأنها نافذة تؤدي الى الجنة، تفوح عطراً يُدخل النشوة الى أعماق النفس، ويجعلها تنام هانئة كما ينام المرء تحت تأثير البثدين، ما أجملها.!، لقد أمضيت معها لحظات كثيراً ما حلمت بها، كانت بحق شهية كمائدة أنزلتها السماء، وقد التهمتها بشراهة.
وأطلق زفرة من أعماقه، وراح يهز راسه ويعظ على شفته بقوة.
وعندما صلى الظهر، كانت المشاهد تتربع في فناء خياله، كلها باسمة، تلوّح بأيادي رقيقة، وأصابع ملونة كأصابع العرائس، أن هلمَّ الى حيث المتعة.
وقد كانت صلاته حينئذ مجرد حركات تؤدى، أما تلك المشاهد فكانت حياة مجسمة تملأ فضاءات روحه، وهذا الذي استحوذ عليه والذي يدعوه مغرياً لم يكن كبائع حلوى أو عصائر الزبيب الذي يستجدي المارة كي يشتروا بضاعته، إنه سلطان مطاع يأمر وينهى، يتربع على عرش القلوب، ومن هذا الذي لا ينفذ أوامره؟.
والحقيقة أنه حاول أن يقاوم، ولكن بسلاح ضعيف غير متكافئ، كان سلاح النشوة أمضى من خواء أسلحته، فسحق كل محاولاته، ويبدو أنه لم يكن حازماً في استغفاره، ولعناته للشيطان كانت مجرد كلمات بلا روح، كان الوهن واضحاً في خطوط دفاعاته التي كانت قوية قبل أن تتصدع أمام الهزات العنيفة التي ضربت نقاط ضعفه، وجعلته يلقي بأسلحته مستسلماً.
لف سجادته بهدوء، وأنهى صلاته التي كان لا يعي كلماتها، ولا يدرى هل أتم ركعاتها الأربع؟، زادت أم نقصت؟، لا يدري!.
كان جسداً في المحراب، وروحاً تتسكع في دهاليز أزقة أسواق اللذة، تبحث عنها بأي ثمن، لم ينفعه أن عظّ على إصبعه، وضرب بكف مسدودة على سطح الطاولة، ولعن في سره صديقه... لكن صورة تلك التي حدثه عنها، كانت تبتسم أمامه، تدعوه، تفتح أحضانها كفراش دافئ في لحظة برد ونعاس، وسلطان الهوى يدفعه من كل أنحاءه.
ولأول مرة سمح لقدميه أن تنحرف به نحو طريق كان دائماً يسميه طريق الرذيلة، وكان قراراً لا رجعة فيه، ولم ينفع معه الاستغفار الخجول.
وعندما ابتلع الأفق قرص الشمس الأرجواني والذي كان قبل لحظات يلوّن الوجوه بحمرة متوهجة، هدأت حينها الأزقة الضيقة الدبقة، غير أن دقات قلبه هي التي لم تهدأ، بل تصاعدت، لم تكن مجرد دقات، بل كانت طبول تقرع كتلك التي تخلق الصخب والضجيج في مناسبات الأعراس والختان.
كان يتسلل كلص، انعطف شمالاً وظهره ملاصقا لحائط أحد البيوت القديمة، والذي ترك آثر الآجر الأبيض على معطفه، حث الخطى سريعاً تدفعه نشوى جامحة، وكان حريصاً أن لا يراه أحد من معارفه، وهو الشاب المتدين الذي أمضى العقد الأخير من سني عمره الذي جاوز الثلاثين بعام، مُلازمأ الجامع، يتمتع بسمعة طيبة، ويحترمه الجميع في محلته، حتى أنهم لقبوه بالحاج تعريفاً له، واعتزازاً به، ولديه من الأصدقاء الكثر، كونه كان منفتحاً على الجميع، ولا يحب التطرف أو الانغلاق، وهذه وجهة نظر الآخرين به.
همس مع نفسه وهو يحث الخطى نحو البيت الذي كان يلعن بلسان صريح كل من سمع أنه قصده، ماذا سيكون موقفك لو أن أحداً من معارفك لمحك وأنت داخل هذه الدار؟ إنها الفضيحة الكبرى، وتأريخ نقي سينقلب رأساَ على عقب، وتكثر حولك الأقاويل، ويحك إن رآك أحد، كان الأولى أن تخشَ اللّه.. يا.. عبد القادر.. أما تدري إنه يراك؟.
آه.. وهز رأسه حيرة، وربما أسفا، ثم نقر الباب نقراً خفيفاً.
فتحت سريعاً، لتفضي الى أشبه ما يكون بسرداب مضاء، اندفع كاللص في فناء الدار، وقرع الطبول مازال يدوي في أعماق صدره، وامرأة بملامح شيطان كانت في مواجهته، غامقة السمرة، هيئتها توحي الى أنها امرأة لعوب، تمضغ لباناً ملوناً تفوح منه رائحة كريهة، تنفخه فوق شفتيها كبالون ثم تفجره، تماماً مثلما يفعل الأطفال، تعلق بين إصابعها سيجارة لم توقدها بعد، وضعتها في فمها بعجالة، وحركة لسانها حركات ماكرة، ثم قالت:
-هل لديك ولاعة؟.
رد متلعثماً:
-كلا.. إنني لا أدخن، وابتسامه باهته لاحت ملامحها على وجهه، سرعان ما انطفأت، مطّت شفتيها، وضحكت غمزاً، وبشيء من السخرية قالت:
-لاعب جيبك، ألف دينار لأشتري ولاعة، وخمسة آلاف للدكتورة التي ستتولى أمرك، إنك محظوظ، ودورك العاشر.
وذيّلت كلامها بابتسامة دامية كانت قد رسمت ملامحها بأحمر شفاه قبل أن تفتح الباب.
أخرج بيدين مرتعشتين أوراق نقدية، كل ما في جيبه، خطفتها منه بمهارة، وألقتها بخفةفي صدرها، وضحكت كببغاء غبية، ثم تركته لتتولى أمر غيره.
وراح هو يتأمل البيت بعد أن هدأ في صدره قرع الطبول، قطة تنظر اليه بعيون شيطانية دسّت رأسها في سلة الأوساخ، حنفية ماء تجري بلا انقطاع في حوض انتشرت على جوانبه الطحالب، مناديل ورقية وخرق قذرة متناثرة هنا وهناك، أريكة قديمة تملّص نابضها فمزق قماش المقعد، وصار الجلوس عليها مجازفة، حيطان أكلتها الرطوبة وصارت مأوى للحشرات والصراصر التي تُصدر أصواتاً تقزز النفوس، سقوف لطخها السواد، تتدلى منها أسلاك كهرباء قديمة، صور ورسوم علقت بفوضوية على الجدران، روائح نتنة تملأ المكان، صراخ وعراك وضحكات عاهرة تصدر من الغرف الموصدة، شباب بأعمار مختلفة يتزاحمون على أريكه قديمة كُسرت أحد قوائمها وعوضّت بطابوقتان وضعتا واحدة فوق الأخرى.
ومن بين زحمة الفوضى تلك، صاحت احدى النساء، وكان عبث العابثين واضحة آثاره على صفحة وجهها الذي لطخ بالأصباغ، فاختلط الأحمر بالأخضر بالأصفر، فأصبح كعلم مثلي، أو كلوحة فنان تشكيلي خدع نفسه والأخرين بتعابيرها.
-أم ياسين، هذا الثامن، أرجوك تأكدي من الحساب، لا أريد أن يتكرر ما حدث بالأمس.
ثم سحبته كما يسحب الخروف الذي جاء دوره في الجزر، وراحت أم ياسين تخط بطبشور ملون تسلسله على الحائط، وهي تغمز بخنصرها وتحركه حركات ذات مغزى، حاول المسكين أن يقاوم، لكنه وجد نفسه محشوراً في غرفة جمعت كل أشكال الفوضى، لم يرَ في حياته مكاناً أقذر منه، ولا أنتن، لكنه لم يُشغِل نفسه بغير المرأة، هذه التي جاء من أجلها.
تلمس أنوثتها فوجدها بئراً ناضبة، حاول أن يستعرض في مخيلته تلك الصور الجميلة التي ساقها له زميله، والتي ألهبت في نفسه حماس الشباب، وأيقظت في داخله وحش جائع كان قد حبسه منذ سنين، لكن الصور تلك حُجبت عنه تماماً، غير أنه أحس أخيراً بطعم حلوى ذابت سريعاً فوق جسد المرأة التي كانت منشغلة عنه في شأنٍ آخر.
وشم رائحة نفسه المحترقة ندما، بل تلمسها، كأنها كف مارد عصرّ قلبه عصرا.
وعاد يجر خطاه تحت جنح الليل، وكل شيء فيه يلعنه، ولم يشعر بنفسه تافهاً كما شعر بها الآن.
ومن فوره استحم ليتطهّر، لكن نفسه أحس بها ما زالت نجسة.
وعندما فرش سجادته ليصلي العشاء.... شعر كمن يُلقي شباكهِ في ماءٍ ليس فيه سمك.
Comments