top of page
Search

قراة نقدية في مسرحية شاهد المعنى للروائي والكاتب شوقي كريم حسن / للد. خالد عمار / العراق / مصر ,,,,,,,,,,,,,,,,,,

  • Writer: وهاب السيد
    وهاب السيد
  • Feb 9
  • 6 min read



ملحمة “..شاهد المعنى ،،،حكاية العشق في زمن الفناء”!!

د،، خالد عمار الابراهيمي.. مصر.

في “شاهد المعنى”، تتجلى معادلة الألم الوجودي في أقصى تجلياتها، حيث يأخذ (شوقي كريم حسن) على عاتقه محاكاة الملحمة الإغريقية، لا بوصفها قالبًا بنائيًا ، بل كجوهر رؤيوي ينهض على صراع المقدّس والمأساوي في آنٍ واحد. ، لا يسعى النص إلى مجرد إعادة تمثيل واقعة الطف بمدلولها التقليدي، بل يحفر في جوهر العزلة التي أُلقي فيها الإمام (علي بن الحسين،) ليس باعتباره شاهدًا، بل كذاتٍ تتشظى بين الألم الجسدي والعذاب النفسي، بين المعرفة المطلقة بما يجري والعجز المطبق عن الفعل.هذه العزلة ليست انعزالًا عن الحدث، إنما هي معراج داخلي نحو إدراك أكثر إيلامًا لمأساة الفقد والاستلاب. فبينما تشق السيوف طريقها في جسد الحسين وأصحابه، تُمزَّق روح السجاد على إيقاع خبرية الطفل (محمد الباقر)، الذي يمثّل عيون الملحمة، ناطقًا برؤى تتجاوز سنّه المحدود. هذه المفارقة الزمنية بين الطفولة والمأساة تمنح المسرحية بعدًا كونيًا، حيث تتحول براءة الطفل إلى عدسة تفيض بالتراجيديا، وكأننا أمام أوديب صغير يشهد تهاوي طيبة، أو كاساندرا تستعيد نبوءاتها في ليلٍ بلا صياح.

اللجوء إلى البناء الإغريقي لا يأتي بوصفه محض استلهام جمالي، بل بوصفه استراتيجية درامية تُضفي على الحدث طابعًا أسطوريًا، يتجاوز التسجيلية التاريخية ليبلغ فضاء التأمل الوجودي. الجوقة الكورالية ليست مجرد صوتٍ جمعي يردّد أصداء الفاجعة، إنما كيان يحاور الداخل والخارج، ينسج من نواح النساء وصراخ الأطفال لغة تتماهى بين النحيب والرثاء الشعري، وكأننا أمام سوناتا جنائزية تتصاعد تدريجيًا حتى تبلغ ذروتها عند احتراق الخيام، ليتحول الفضاء المسرحي إلى صرخة كونية تتعالى فوق الأزمنة.مع اشتعال النار، يتحرّر الجسد من قيده الزمني، فيسعى (السجاد)، رغم وطأة المرض، إلى عبور المسافة المستحيلة نحو جسد أبيه المقطّع، مدفوعًا بهاجس الوصول إلى الحقيقة، تلك التي لا تتجسّد في فعل الرؤية وحده، إنما في احتضان الفقد بوصفه قدرًا لا مهرب منه. تتجلى (زينب،) ليست بوصفها شخصية مساندة، بل صوتٍ مقاوم للعدم، حضورها ليس استدعاءً دراميًا بقدر ما هو تجسيد لثنائية الرثاء والصمود، حيث تتقاطع نبرتها مع إيقاع الجوقة في خلق جدلية بين الحداد والرفض، بين الإذعان والتحدي.لم يسبق أن تجرأ نص مسرحي على إقتحام هذه اللحظة بهذا العمق السيكولوجي، حيث تمتزج المعرفة بالجهل، والرؤية بالخذلان، والقوة بالعجز. “شاهد المعنى” ليست مجرد استعادة لواقعة تاريخية، بل مساءلة فلسفية عن الشهادة ذاتها، وكيف يكون المرء شاهدًا لا يستطيع التدخّل، عن العذاب الكامن في معرفة النهاية دون القدرة على تغييرها، عن الإيمان الذي يُختبر في أحلك لحظاته، حين لا يبقى من المشهد سوى لهب يحرق الخيام، وعيونٌ تدمع على مسافة من الخراب، وأصوات تتداخل بين السماء والأرض، لتسأل السؤال الذي لن يجد إجابة أبدًا: لماذا؟ في “شاهد المعنى”، لا يكتفي (شوقي كريم حسن )باستدعاء واقعة الطف بوصفها مأساة تاريخية، بل يعيد إنتاجها في فضاء مسرحي تتماهى فيه الأزمنة، يُفرغ النص الحدث من زخارفه السردية، ليقدّمه ككتلة شعورية متراكبة، تشتبك فيها العزلة مع الشهادة، والاحتراق مع الإدراك، والصمت مع الهتاف. ماهي بملحمة تقليدية، بل تشريح دقيق للحظةٍ تبدو ساكنةً في ظاهرها، لكنها تضجّ بالحركة الداخلية، حين يصبح (السجاد )بؤرة توترٍ بين الحدث الذي يتكشف في الخارج والوعي الذي يشتعل في الداخل، بين الرغبة في الحركة وقيد المرض، وبين المعرفة اليقينية والعجز المطلق.الملحمة تُبنى على تناقضاتها، فالإمام (السجاد) ليس محاربًا، لكنه محاصرٌ بمعركة لا يسمع سوى أصدائها، جسده المثقل بالمرض يقابله جسد أبيه الذي تفتّته السيوف، بينهما تمتدّ مسافةٌ تتجاوز الجغرافيا لتصبح معادلة فلسفية: ماذا يحدث حين يكون الإنسان شاهدًا عاجزًا على فاجعته؟ هذه المفارقة هي جوهر البناء الدرامي، يغدو غياب الفعل أشدّ حضورًا من الفعل ذاته، وتصبح الشهادة لعنةً لا تقلّ قسوة عن الشهادة بالدم.، لا يُقدَّم الزمن بوصفه خطًا مستقيمًا، انما دائرة تتّسع وتضيق، تتباطأ حين يتناهى صوت الطفل (محمد الباقر) ناقلًا مشاهد الموت، ثم تنفجر حين تندلع النيران ويتعالى العويل. في هذه اللحظة، يتفكك الإحساس بالوقت، فالماضي والمستقبل يتداخلان في حاضرٍ ملتهب، لتصبح (زينب) شاهدا ليس في كربلاء فقط، بل في كل أرضٍ تنزف، و(محمد الباقر )ليس مجرد طفلٍ صغير، بل شاهدٌ يمتدّ صوته عبر الأجيال، كأنّ المسرحية تتحرّر من قيدها الزمني، لتصبح إعادة إنتاجٍ مستمرةٍ لمأساةٍ لا تنتهي.المفارقة الكبرى تتجسّد في فعل الاحتراق، فالنار التي تلتهم الخيام ليست مجرد علامة على الخراب، إنما كشفٌ وجوديّ عن طبيعة العالم، حيث يتحوّل كل شيءٍ إلى رماد، تتساوى فيه الأجساد الممزقة والأحلام المحترقة. النار ليست حدثًا عابرًا، بل كينونة قائمة بذاتها، قوةٌ تتجاوز دورها الفيزيائي لتصبح رمزًا لمصيرٍ محتم، أشبه بنار بروميثيوس التي لا تكتفي بالحرق، تحرّر المعنى من مادّيته، وتجعل الألم يتجاوز الجسد إلى مستوى الأسطورة.

إن جوقة المسرح الإغريقي، التي تتخلّل النص، لا تعمل كصدىً للأحداث بل تضطلع بدورٍ أشبه بالراوي الجمعي، صوتٌ خارج الزمن، يُعلّق، يُنبّه، يُشارك في بناء الإحساس بالمأساة. لكنّها ليست جوقةً محايدة، بل تتلوّن بحزن نساء كربلاء، تتكلم بلغة الجرح، تصرخ حين يسقط الشهداء، تهدأ حين يتكلم السجاد، ثم تشتعل من جديد حين تصل النيران إلى الخيام، وكأنّها روحٌ جماعية تتأرجح بين الرثاء والانفعال، بين التذكّر والآن.وسط هذه العاصفة، تبرز (زينب)، ليست مجرّد شقيقةٍ مفجوعة، بل تجسيدًا للمقاومة داخل الحداد، لا تكتفي بالبكاء مفجوعة تصنع من صوتها قوةً مضادة، الصرخة التي ترفض أن تُبتلع في الضجيج، الحضور الذي يتحدّى النسيان. تقف في مواجهة النار، لا كضحيةٍ بل كأيقونة، وبهذا تصبح المسرحية احتفاءً بالصوت الذي لا يُطفَأ، بالصدى الذي يظلّ يتردد حتى بعد أن يُزال أثره من الأرض.في “شاهد المعنى”، ليست الكلمة مجرّد أداةٍ للحكي، بل نداءٌ في الفراغ، محاولةٌ للقبض على لحظةٍ كانت وما زالت تتكرر، كأنّ النص لا يحكي عن الطف بقدر ما يحكي عن كل لحظةٍ تتكرر فيها المأساة. هذه ليست مسرحيةً عن الماضي، انما مرآةٌ للمستقبل، حيث النار لم تنطفئ، و العزلة لم تنتهِ، و(السجّاد) ما زال يحاول الوصول إلى جسد والده، في مشهدٍ لا يكتمل، لأنّه يحدث الآن، وسيحدث غدًا، وفي كل زمنٍ يحترق فيه معنى الحياة. في “شاهد المعنى”، لا يُكتب الحدث المسرحي كوقائع تنتهي عند حدود المشهد، تغدو أثرٍ يتجاوز اللحظة، إذ تتوسّل الملحمة بالمأساة لا لاستدعائها، بل لإعادة تشكيلها في وعي المتلقي، ليغدو الطف ليست معركةٍ جرت في زمنها الخاص، بل ظلاً ممتداً في كل تاريخٍ مُبتلى بالفقد والاستلاب. هذا الامتداد الزمني هو ما يجعل النص يخرج عن نمطية المسرح التأريخي، ليتحوّل إلى مسرحٍ رؤيويّ، لا يكتفي بالسرد، بل يحفر في صميم التجربة البشرية، متجاوزًا الحدث نحو سؤالٍ أعمق: كيف تستمرّ الحياة بعد أن تُحرَق خيامها؟ وكيف يواصل الإنسان شهادته حين تكون الشهادة عبئًا يتجاوز الاحتمال؟هذه الأسئلة تتجلّى بوضوح في شخصية الإمام (السجاد)، الذي يتّخذ موقعًا دراميًا استثنائيًا، ماهوبالبطل الصريح للأحداث، لكنه مركز الجاذبية التي تدور حولها التراجيديا. شخصيته تحمل تناقضاتها الجوهرية، هو العارف والعاجز، الشاهد والسجين، الإنسان الذي يدرك الفاجعة في كل أبعادها، لكنه يُمنع من الحركة، فيصبح جسده المُنهك رمزًا لعجزٍ كونيّ، يعكس مأزق الكائن في مواجهة قدرٍ لا فكاك منه. و في الوقت ذاته، ليس شخصية مستسلمة، بل يحاول، حتى في أقصى لحظات ضعفه، أن يمدّ جسوره نحو الجسد المسفوح، أن يقطع المسافة المستحيلة بين الحياة والموت، وكأنه في سعيه هذا يتقمّص روح المتلقي ذاته، الذي يراقب المشهد بعجزٍ مشابه، متورّطًا في فجيعةٍ لا يستطيع منعها.إنّ المسرحية، في بنيتها العميقة، تقوم على ثنائية الوصول والاستحالة، فكل الشخصيات تتوق إلى نقطةٍ لا تُطال: (السجاد )يريد الوصول إلى جسد أبيه، (زينب) تريد الإمساك بالزمن قبل أن ينهار، الجوقة تريد إعادة تشكيل الحدث في لغةٍ تستطيع احتواءه، لكن الجميع يصطدم بجدار الفقد، حيث كل الطرق مغلقة، و المحاولات محكومة بالمأساة. هذه البنية تجعل الملحمة لا تكتفي بإعادة إنتاج الألم، بل تحوّله إلى متاهةٍ درامية، حيث يظلّ السؤال معلقًا: ماذا يحدث بعد الفاجعة؟ وأيّ معنى يُمكن انتزاعه من رمادها؟

وسط هذا الرماد، تشتعل اللغة، ولا ينحصر النص في الحكي، بل يتوسّل بالشعر ليخلق مناخًا شعائريًا، يبتعد عن المباشرة، ويمنح المأساة بعدها الرمزي. فالحوار لا يُكتب كأداةٍ لتقدّم الحبكة، بل ترنيمةٍ تمتزج فيها المراثي بالرؤى، تتداخل الأصوات كما لو أنّها تأتي من زوايا مختلفة من الزمن، وكأنّ الجوقة ليست خارج الحدث، بل امتدادٌ لصوتٍ أعمق، يتردّد في صمت الأزمنة، يتلو صلاته فوق مسرحٍ يُضاء بألسنة النار.ومع اشتعال النيران، لا ينتهي العرض، بل يبدأ، كأنّ النار ليست خاتمةً، انما بدايةً جديدة لحكايةٍ أخرى، تستعيد نفسها في كل جيل. وفي هذا التكوين، تتجاوز “شاهد المعنى” كونها عملاً مسرحيًا عن الطف، لتصبح عملاً عن فكرة الخلود ذاتها، عن كيف يستمرّ الألم في الذاكرة الجمعية، لا بوصفه ماضياً مضى، بل حاضرٍ يُعاد إنتاجه. فهذه ليست مأساةً حدثت، هي مأساةٌ لا تزال تحدث، ولن تتوقف عن الحدوث، طالما أن الشهادة لا تزال قائمة، وطالما هناك من يقف أمام الحريق، متسائلًا: هل يمكن للمعنى أن ينجو من ألسنة اللهب؟ في “شاهد المعنى”، لا تتجلّى الخاتمة كنقطةِ انتهاء، بل كدائرةٍ تعيد إنتاج ذاتها، حيث لا تكتمل المأساة لأنها تتجدّد مع كل قراءة، ومع كل إعادة تمثيل على خشبةٍ تتّسع لكل أزمنة الفقد والاحتراق. الملحمة لا تترك المتلقي في راحة الإدراك المنتهي، بل تدفعه نحو أسئلةٍ مفتوحة، نحو وعيٍ أكثر إيلامًا بأنّ الشهادة ليست فعلًا يُختتم، بل صيرورة ممتدة، لا يحدّها زمن ولا تطفئها النيران. أعظم ما تحقّقه المسرحية أنها لا تسجّل الحدث، بل تُشعرنا به، لا تكتفي بإعادة رواية الطف، بل تجعلنا شهودًا آخرين، نرى، وندرك، ونتعذّب بالعجز ذاته الذي أطبق على الإمام (السجاد،) حيث المعرفة المطلقة لا تمنح قوة الفعل، بل تسلّط علينا لعنة الإدراك الصامت. وبينما نترك المقاعد، نكتشف أن المسرح لم يُغلق ستاره، وأن المشهد لم يُختتم، لأنّ النيران لا تزال تشتعل، ولأنّ السؤال الأكبر يظلّ معلقًا: إذا كان الشاهد عاجزًا، فمن سيحمل الرواية؟ وإذا الحقيقة احترقت، فهل يبقى منها ما يكفي ليُنقَش على جدران الزمن؟

إنّ “شاهد المعنى” لا تكتفي بكونها نصًا مسرحيًا، بل تحوّلت إلى تجربة وجدانية تجبرنا على مواجهة الفاجعة، لا بوصفها ماضياً يُستعاد، انما جرح ممتد، ندبةٍ لم تلتئم في قلب الزمن. وهذه ذروة التراجيديا: أن ندرك أن الحريق ليس مشهدًا بعيدًا، هو أقرب إلينا مما نظن، وأنّ الطف ليست روايةً نقرأها، بل صدىً يظلّ يتردّد، عبر كل الازمنة، وعلى كل خشبة، وفي كل روحٍ لا تزال تبحث عن معنى الشهادة في رماد الخيام.!!

 
 
 

Comments


موقع فنون الثقافي

©2024 by موقع فنون الثقافي . Proudly created with Wix.com

bottom of page