top of page
Search

(فوانيس الجحيم: مرآة الذات المكسورة في متاهة الرغبة والذاكرة)/ تفحص جمالي/نوار يوسف الحمصي. /تونس,,,,,,,,,,,,,,,,

  • Writer: وهاب السيد
    وهاب السيد
  • May 17
  • 8 min read



(فوانيس الجحيم: مرآة الذات المكسورة في متاهة الرغبة والذاكرة)

تفحص جمالي/نوار يوسف الحمصي..تونس

،،،رواية فوانيس الجحيم للكاتب شوقي كريم حسن تنتمي إلى نمط السرد الحديث الذي يُغرق القارئ في عوالم داخلية متشظية، تمزج بين الحضور الواقعي للحياة اليومية والتوهج الرمزي لحالات الوجود المعقدة. منذ الصفحات الأولى تنفتح الرواية على موت مبهم لشخصية رئيسية، ثم تبدأ بالتداعي في استحضار طبقات كثيفة من الحزن، الأسى، والحنين، بلغة شعرية مشبعة بالصور والانفعالات. لا تسير الحكاية على نسق زمني تقليدي، بل تعتمد على التقطيع الزمني والتناوب بين الحاضر والماضي، حتى تضيع الحدود بين الزمان والمكان، كما تضيع الحدود بين الحقيقة والخيال.يُعد “داخل الهبش” الشخصية المحورية في الرواية، وهو تجسيد مكثف للإنسان المهمش، الممزق بين رغبته في الانتماء وتمرده على الواقع. يبدو ككائن مأزوم، لا يبحث عن خلاص بقدر ما يتلذذ بالتورط في أوجاعه. يتنقل في فضاءات تحفل بالأسواق، الشواطئ، الحارات الشعبية، النساء، والصمت، مصطحبًا ذاكرته المثقلة بالانكسارات. الحوار الذي يدور بينه وبين الآخر — سواء كان صديقًا قديمًا أو امرأة عابرة أو حتى ذاته الداخلية — يحمل نبرة فلسفية، عميقة، لكنها مغلفة أحيانًا بسخرية مريرة.المرأة في الرواية لا تظهر ككائن واحد، بل بعدة تجليات: الحبيبة، الأم، العشيقة، والمرأة الساحرة التي تقدم “ماء الحياة”. هذه الأخيرة تلعب دورًا شبه أسطوري، إذ لا تمثل فقط الحب أو الجسد، بل أيضًا التحول والتجدد والانعتاق من رتابة الحياة العفنة. لا تمنح هذه المرأة خلاصًا مجانياً، بل تفرض على البطل نوعًا من الطقس التطهري الذي يعبر خلاله إلى حياة مختلفة، قد تكون أكثر جنونًا، لكنها أقل رتابة. ماء الحياة في هذا السياق يتحول إلى رمز للحظة التحول التي يتوقف فيها الزمن وتتلاشى الفواصل بين المعقول واللامعقول.تظهر رمزية النهر بشكل مكثف في الرواية، حيث يمثل النهر ليس فقط الجغرافيا، بل الزمن، والذاكرة، والتحولات الداخلية. كلما عاد البطل إلى النهر، عاد إلى ذاته القديمة، الطفولية، المشتهاة والمقموعة. تتكرر إشارات الماء، الروبة، الشط، الطين، السواقي، كمفردات ترسم بنية شعورية غامضة وخصبة، توحي بالحياة والموت في آنٍ واحد. وفي المقابل، يبدو السوق بؤرة التناقض اليومي، حيث تتواجه القيم، الأجساد، والأوهام في حركة دائمة من الاحتكاك والصدام.اللغة في فوانيس الجحيم ذات طابع شعري، لكنها لا تهرب إلى التجميل، بل تلامس أقصى درجات الواقعية والانكشاف. الجمل تتراكم وتتداعى مثل طمي النهر، ولا تخلو من تكرار مقصود يُبرز الهمّ، الحزن، والرغبة في القبض على المعنى في عالم فقد المعاني. الانفعالات الحسية مفرطة، والجمل تتلوى تحت وطأة الألم، حيث الجسد الأنثوي يُستدعى كمساحة للخلاص والتطهر، لكنه أيضًا ميدان للخذلان والمفارقة. الجسد هنا ليس فقط موضوعًا للذة، بل ساحة للقلق الوجودي والبحث عن الجذور.تحضر الفلسفة في الرواية بشكل ضمني، في حوارات البطل مع نفسه أو مع الآخرين، حيث تُطرح أسئلة جوهرية عن الحب، الأبوة، الغفران، والانتماء. لا تمنح الرواية أجوبة، بل تسهم في تعميق الشعور بالتشظي. وهذا ما يجعل الرواية أقرب إلى تجربة تأملية في الذات والمكان والهوية. حتى الطفولة التي يُفترض بها أن تكون مساحة طهر، تحضر مشوهة، محمّلة بالخوف والحرمان والعجز، وكأن الذاكرة ليست سوى حاضنة لجراح لا تندمل.من الناحية البنيوية، فإن الرواية تنهض على مفارقة واضحة: الرغبة في الكلام والبوح، مقابل لعبة الصمت التي تحكم كل الشخصيات تقريبًا. الجميع يتكلم، لكنه لا يقول ما يريد تمامًا، والجمل المبتورة، المترددة، والمشحونة بالرمز، تعمّق من شعور القارئ بأنه أمام كائنات تائهة في متاهة من اللغة والمصير. الشخصيات لا تُقدَّم ككائنات متكاملة، بل كأشباح تنبثق وتختفي، وتعيد رسم نفسها في ذاكرة البطل المتضخمة.فوانيس الجحيم ليست رواية تقليدية تُقرأ من أجل الحكاية، بل تجربة وجودية تُعاش لغويًا. هي مرآة لداخلنا المنكسر، ومناجاة حارقة للمدينة التي نسكنها وننكرها في الوقت نفسه. شوقي كريم حسن لا يسرد حكاية، بل يعري ذاكرة، يستخرج من أعماق الطين وجوهًا مطموسة، نساءً خائفات، رجالًا منهكين، وأحلامًا تتأرجح بين الضياع والانبعاث. إنها رواية من ذلك النوع الذي لا يهدأ في ذهن القارئ، ويظل ينكأ فيه جراحًا ربما نسي أنها موجودة. ومع توغلنا في النص، ندرك أن البنية السردية التي اختارها شوقي كريم حسن تنأى عن التسلسل المنطقي للحبكة، وتجنح نحو تفكيك الزمن والمكان لصالح حالة شعورية طاغية، تشبه الحلم أو الكابوس الطويل. ليس القارئ مدعوًا لفهم تسلسل الأحداث بقدر ما هو مطالب بالتقاط الإشارات النفسية والرمزية، وتفكيك الكثافة الشعورية التي تهيمن على كل سطر. الراوي، أو صوت الداخل الهبش، ليس شاهدًا محايدًا، بل ذات تنهار في سردها، وتتماهى أحيانًا مع الآخر، وتذوب في أحاسيس النساء، الأرض، الماء، والوجوه العابرة.نلاحظ أن المدينة التي تجري فيها الأحداث بلا اسم، لكنها واضحة الملامح، مدينة جنوبية، عربية، أنهكتها الحروب، الجوع، القمع، وشيخوخة الأحلام. تظهر كأنها كائن حي يتنفس الحزن من جدرانه، وسوقه، ومنازله، ونسائه. هذه المدينة ليست مجرد خلفية مسرحية للأحداث، بل هي الشخصية الكبرى التي تبتلع كل شيء، وتعيد تشكيل مصائر الأفراد. السوق فيها لا يُقدَّم كمكان للرزق فقط، بل بوصفه مسرحًا تراجيديًا يتبادل فيه الناس أدوارهم في لعبة العذاب والتمثيل.أما على مستوى العلاقة بين الداخل الهبش والمرأة، فهي علاقة لا تُحسم، لا تكتمل، ولا تنقطع. هي علاقة شدّ وجذب، استسلام وتمرّد. صبرية، المرأة/الأسطورة، تظل بعيدة، رغم قربها الجسدي. تقدم الطعام، اللمسة، الابتسامة، لكنها لا تمنح اليقين. يتقاطع فيها الرمز الجنسي مع رمز الأمومة والحنان، وفي كل ظهور لها يُستثار في البطل جرح ما، أو حنين لماضٍ لم يتحقق. وفي المرأة الساحرة التي تقدم “ماء الحياة”، يشتبك الحسي بالميتافيزيقي. هي لا تمثل الرغبة فحسب، بل المعرفة أيضًا، وتتحول الكأس إلى طقس عبور، وكأننا أمام نص طقسي لا يخلو من عناصر الخرافة والأسطورة.الخيال في الرواية لا يُستخدم للهروب من الواقع، بل لتعرية حقيقته بأدوات أكثر جرأة وحرية. الأجساد تُعرّى لتكشف الروح، والأرصفة تتكلم، والكلاب والغربان ليست مجرد كائنات، بل إشارات لحضور الغياب، ولانهيار النظام الرمزي للعالم. حتى اللغة، تبدو وكأنها لم تعد تسع المعنى، فتلجأ إلى التكرار، التقطيع، الاستعارة المكثفة، لتلامس مناطق يصعب قولها بلغة مباشرة في كثير من الأحيان، تُفلت الرواية من التصنيف، وتغدو أقرب إلى تدفق شعري طويل، أو تهويم روحي، لكنه مشبع بالحسية واللحم والحياة. هنا، لا يوجد صراع تقليدي بين الخير والشر، بل صراع داخلي بين الانتماء والانفصال، بين الحب والفقد، بين الحقيقة والرغبة. هذا التمزق هو جوهر الرواية، وسبب عمقها وجمالها المرير.وربما ما يجعل فوانيس الجحيم نصًا ذا قيمة أدبية كبيرة، هو أنها ليست رواية تخاطب الحواس فقط، بل الوعي الجمعي، فهي تتحدث عن جيل ضائع، عن وطن يتحلل، عن ذكورة مهزوزة، وأنوثة تبحث عن ملاذ، عن صراخ الداخل الذي لا يجد من يصغي إليه. إنها في نهاية المطاف مرآة مهشّمة، يرى القارئ فيها وجوهًا كثيرة، قد تكون وجهه ذاته، لكنه لم يتجرأ بعد على النظر فيه. ومع استمرار السرد، تتكشف الطبقات الأعمق من الرواية، حيث لا يعود “داخل الهبش” مجرد شخصية روائية، بل يتحول إلى تمثيل جمعي للإنسان الجنوبي — وربما العربي — الذي تطحنه الحروب، وتستنزفه المدينة، ويختنق تحت ضغط الموروث الاجتماعي والحرمان العاطفي. صوته يتناوب بين الحكمة المجروحة والجنون الشعري، وتتحول رحلته اليومية، من النهر إلى السوق، إلى رمزية كونية للبحث عن المعنى في عالم ينكر المعنى.إنه صوت رجل اختبر النضج الجسدي، لكن لم يكتمل نضجه الروحي، فظل طفلًا مندهشًا يركض خلف امرأة تشبه الأم والحبيبة والوطن. هذا الالتباس في العلاقة مع الأنثى لا يُحلّ، بل يُعاش على امتداد الرواية بمرارةٍ ولذّة في آنٍ معًا. فالمرأة ليست فقط موضوعًا للرغبة، وإنما شريكًا في الغواية والنجاة، إنها الوحيدة القادرة على منح ماء الحياة، أو حرمانه، ولا يظهر أن الرجل قادر فعلاً على فك شفرتها أو امتلاكها، بل هو دومًا مهدد بفقدها أو العجز أمامها.ويبرز أيضًا في الرواية التواشج الحيّ بين الجسد واللغة. فالجسد يُوصَف لا بوصفه مادة بيولوجية، بل بوصفه نصًا، يحمل أسرارًا، رغبات، خيانات، وتمردات، تمامًا كما تحمل اللغة زلاتها ومجازاتها. كل مرة يقترب فيها البطل من جسد أنثوي، يتورط في انكشاف جديد على ذاته، في إحباط، أو في لحظة عابرة من الصفاء. حتى اللذة في الرواية ليست مكتملة، فهي حادة، مباغتة، غالبًا مشوبة بالخوف والخيبة، وكأن الانعتاق مستحيل في عالم مسيّج بالقمع والتقاليد والانهيارات النفسية.لا يمكن قراءة فوانيس الجحيم دون التوقف عند حضور “المدينة” بصفتها كيانًا خانقًا، متوحشًا، يتحكم في مصائر البشر ويُعيد تشكيلهم. المدينة هنا لا تقدم ملاذًا أو أفقًا، بل هي شبكة متاهية من الأزقة والأسواق والمنازل المتهالكة، تتكاثر فيها النساء مثل الأساطير، وتتصاعد فيها رائحة الروبة والماء الفاسد، وتنبعث من جدرانها أصواتٌ أشبه بنعيق الغراب. وهي ليست مدينة محددة، بل هي رمز لكل المدن التي خذلت أبناءها، وداست على حكاياتهم الصغيرة.وما يمنح الرواية طابعها الفريد أيضًا هو هذا الانزياح المستمر بين الحلم والواقع، بين الحاضر والذاكرة. لا نعرف يقينًا متى يتحدث البطل عن حدث جرى، أو عن وهم رآه في منامه. يذوب الحدّ الفاصل بين اليقظة والهلوسة، وتُصبح الحياة كلها كابوسًا ممتدًا، أو رؤيا لم تكتمل. حتى مشاهد اللقاءات الحميمة لا تحمل طابعًا واقعيًا، بل تُروى كما لو كانت من عالم أسطوري، أو طقس من طقوس التطهير العتيقة.

الكاتب لا يمنح القارئ فرصة للتنفس بسهولة، فالسرد يتراكم مثل الطين، كثيف، دافق، مسكون برغبة لا تهدأ في البوح، لكنه بوح لا يصل إلى نهايته، بوحٌ يتعثر في الكلمات، كما تتعثر الأرواح في دروبها، وكأن اللغة نفسها مصابة بما أصاب المدينة: التعب، التكرار، والتشظي. حتى الجمل، وهي تتوالى بطولها وانفعالاتها، تبدو وكأنها تستعير أنفاس الداخل الهبش، تتنفس مثل كائن حيّ، أو تنهار مثل عشيقته تحت وطأة الانتظار.فوانيس الجحيم هي رواية لا تسعى إلى الإمتاع السهل، ولا تقدم نهاية مغلقة أو خاتمة تقليدية. بل تنتهي كما تبدأ: بانطفاء فانوس، أو اشتعال آخر، بشهقة معلّقة، بسؤال بلا إجابة. القارئ لا يخرج منها حاملًا قصة، بل تجربة، طقسًا، ربما وجعًا يشبه ما يحسّه الداخل الهبش وهو يُمعن النظر في الشط، باحثًا عن صورة الطفولة المفقودة، أو ظلّ امرأة قالت له: “أنا لا أريدك، لكني لا أستطيع الرحيل”.

إنها رواية تليق بهذا الزمن العربي المنهك، الحائر بين أطلال الأمل ونداءات الغياب. رواية لا تشبه شيئًا، لكنها تشبهنا كثيرًا.ومع تقدم النص، يبدأ القارئ بالشعور أن ما يجري ليس سردًا لحياة أفراد، بل استدعاء جماعي لأرواح أرهقتها ذاكرة المكان والزمان. فكل شخصية تظهر وتختفي، ليست إلا انبعاثًا لصدى البطل، أو انعكاسًا لجرح قديم لم يُشفَ. النساء اللواتي يعبرن الرواية بأجسادهن، بأصواتهن، برائحتهن، لا يقمن فقط بوظيفة درامية، بل يحملن خطابًا صامتًا عن الهوية، عن الضياع، عن الرغبة بالانعتاق، أو حتى عن الحنين لنوع من الطهارة البكر التي لم تعد ممكنة.

وفي هذا السياق، فإن شخصية “صبرية” تمثل المحور الرمزي الأعمق في الرواية. فهي ليست فقط امرأة بعينها، بل رمز مكتنز بالمعاني: الطفولة، الوطن، الأم، العشق الأول، الذكرى الملتبسة، وحتى الموت الجميل. حضورها المتكرر على امتداد الصفحات ليس عبثًا، بل هو تأكيد مستمر على أن الداخل الهبش، ككل إنسان منكسر، يتشبث بذكرى ما تعيده إلى نقطة التوازن المفقود. لكن المفارقة أن هذه الذكرى – أو هذا الرمز – لا يمنحه الاستقرار، بل يُمعن في زعزعته، كلما اقترب منها.

أما الحوار بين الداخل وصديقه الأزلي، أو ذاته الأخرى، فهو أشبه بمناظرة لا تُحسم بين جناحي الإنسان: العقل والوجدان، الحكمة والرغبة، الذكرى والنسيان. هذا الصوت المزدوج داخل البطل يمنح الرواية عمقًا فلسفيًا، ويجعل من الشخصية الرئيسية كيانًا متشظيًا يحاور ذاته كما لو كانت آخرين. من هنا، يتحول كل حوار في الرواية إلى ما يشبه التداعي الحر، أو البوح الاعترافي، الذي لا يسعى إلى إقناع أحد، بل إلى التخفف من ثقل الصمت.ولا يمكن أن نغفل تأثيرات الأسلوب، الذي يُعد أحد أبرز عناصر التميّز في الرواية. فشوقي كريم حسن يكتب بلغة تتراوح بين الشعر المنثور والتقنيات السينمائية. هو لا يصف فقط، بل “يُصوّر” المشهد بلقطة قريبة، يُدخل القارئ في عصب اللحظة، ثم يسحبه إلى ضربة شعورية مباغتة. الجملة لديه لا تستقر، بل تتلوى، تتعرّق، تنكسر، لكنها تظل نابضة بالحياة. حتى القبح في روايته يكتسب جمالًا ما، لأن الكاتب لا يخشى الاقتراب من الحقيقة كما هي: فوضى، عرق، طين، شهقة، أنين، رغبة عارية.

وفي قلب كل هذه الصور، تتكرّر مفردات مميزة تُشكّل معجم الرواية الرمزي: الطين، الروبة، السواقي، الشط، السوق، النساء، اللبن، الليل. إنها ليست مجرد تفاصيل، بل رموز متراكبة، كل واحدة منها تحمل دلالتين أو أكثر، وتتبادل الأدوار وفق المشهد والسياق. الطين ليس فقط المادة التي يُصنع منها البيت أو الجسد، بل هو الماضي الثقيل، الأصل، وأحيانًا العبء. اللبن ليس غذاءً فقط، بل طقس التحول، الروبة ليست فقط طعامًا، بل رمزًا للأنثى، للرغبة، وللقلب المفتوح.

رواية فوانيس الجحيم لا تكتب عن الجحيم بوصفه مكانًا أخرويًا، بل كواقع يومي معاش: في الشارع، في الجسد، في الفراش، في السوق، في الذاكرة، في فوضى الحب، وحتى في لحظة اللذة المتشابكة مع الخوف. الجحيم في الرواية ليس خارجيًا، بل داخلي، يشتعل كلما حاول الإنسان أن يصير حرًا، أو أن يحب، أو أن يتذكر. وهذا ما يجعل من “الفوانيس” التي في العنوان رموزًا للنور الوحيد الممكن وسط الظلمة، لكنها فوانيس خافتة، واهنة، أو ربما على وشك الانطفاء.

الرواية، بكل تعقيداتها الأسلوبية وشحنتها النفسية العالية، تبدو وكأنها نشيد طويل لكائن خائب، عاش الحياة كلها على هامش العالم، وقرر أخيرًا أن يتكلم. لكنها ليست مجرد رواية عن البطل، بل عن كل أولئك الذين يشبهونه: المهمشين، العشاق الخائبين، الحالمين في أسواق ضيقة، والأرواح التي لم تجد شطًا تستقر عنده. إنها رواية تُقرأ كأنها صدى النفس، أو مرآة الروح، لكنها مرآة مكسورة، كل قطعة منها تعكس صورة مختلفة… وكل صورة تحكي جحيمًا صغيرًا.!!

 
 
 

Comments


موقع فنون الثقافي

©2024 by موقع فنون الثقافي . Proudly created with Wix.com

bottom of page