top of page
Search

فطام مؤجل / مسرودة مسرحية / للكاتب شوقي كريم حسن / العراق ,,,,,,,,,,,,,

  • Writer: وهاب السيد
    وهاب السيد
  • May 20
  • 5 min read




فطام مؤجل..!!

(مسرودة ممسرحة)

شوقي كريم حسن

“إن سر الوجود لا يكمن في البقاء على قيد الحياة فقط، بل في إيجاد شيء يستحق العيش من أجله.

                                (ديستويفسكي)

(غرفةٌ ضيّقة، جدرانها مطلية بلون باهت، نافذة صغيرة تُطلّ على شارع خالٍ. رجل سبعيني يجلس إلى طاولة قديمة، يخطّ شيئاً على ورقة. صوت نايٍ جنوبيّ يأتي من البعيد.)

الراوي (بصوت داخلي)

مرت الأعوام…كأنها طوابيرُ جنائزية لا تنتهي،يمشي في مقدمتها وجعي،

وفي مؤخرتها ظلّي الخائف من المجهول.

(تُظلم الإضاءة قليلًا. تظهر شاشة سينمائية خلف الرجل، تُعرض فيها مشاهد متقطعة لطفولة باهتة، فتى يركض خلف طيف أمّه، فتى يسرق الحلوى، فتى يُصفع لأنّه كتب شعراً بدلاً من أن يحلّ مسائل الحساب.)

الرجل (يحاور ذاته):

سبعون؟منذ متى تعبت يا قلب؟

منذ متى نسيت الأغنيات؟

أم أنّ أحداً لم يغنِ لي منذ ولادتي؟

هل يُمكن لعمرٍ أن يُكمل دربه دون أن يُحتفل به؟

أنا الذي عبرت الجحيم ولم أعد لأحكِ الحكاية،من يذكرني حين تمطر السماء على قبور المنسيين؟

(صوت نسائي ناعم يأتي من خلف الستارة، كأنه طيف من الماضي.)

الصوت:يا صغيري، أيامك تكون سعيدة، فقط اصبر،فكل ليلٍ طويلٍ له فجرك…!!

الرجل:كذبٌ.كبرتُ يا أمّي،ولم يأخذ بيدي أحدٌ إلى الفرح،كنتُ أمشي إليه وحدي،وفي كل مرة يهرب مني كأرنبٍ جريحٍ في البراري.

(يتنهّد، تنهيدة الجنوب، تنهيدة النخل حين يُصفع بالريح.)

الرجل (كأنه يرتجل موالاً):يا عين دمعك حزين، ما نفع دمعك بعد؟

ما حد سأل عن وجعك، ما حد سمعك بعد ،،مرت سنيني سراع، ما شافني واحد سعد ما حد كتب لي رسالة، ولا فرحني وعد!!

(يُغلق الستار لحظة. يعود يُفتح من جديد: الرجل يرتدي بدلته القديمة، يحمل كعكة صغيرة عليها شمعة واحدة، يجلس وحده في منتصف المسرح.)

الرجل (بابتسامة ساخرة):يقولون:

احتفل بنفسك، لا تنتظر أحداً…

أقول:وماذا تفعل الشمعة إن لم يزاحمها ضوء العيون؟!!

ما قيمة الفرح إن لم يجد له صدراً يحتضنه؟

(ينهض يتقدّم نحو الجمهور، يحوّل كلامه إلى حكمة ممزوجة بالتجربة.)

الرجل:اعلموا أن الذي لا يُحتفل به،

يصير قلبه مقبرة لأعياد الآخرين.

وأن الذي لا يسمع: “أيامك سعيدة”

يشيخ قبل أوانه،يحفر تجاعيده بظفر الوحدة.

(يتقدم صوت عود حزين. تظهر على الشاشة خلفه صورٌ لأعيادٍ في بيوتٍ أخرى، ضحكات، شموع، هدايا… بينما هو ما يزال في ذات المكان.)

الرجل (هامساً، لنفسه):هل خطيئتي أنني بقيت..أنني أحببت العالم رغم قسوته؟

أنني انتظرت دون أن أعاتب؟

أنني غفرت لمن نساني؟

(ينهض ببطء، يتقدّم نحو الظلام، صوته ا يختلط بأنين الناي الجنوبيّ.)

الرجل:وحده الجنوبيّ…يضحك ليُخفي نواحه،يغنّي فوق الرماد،

ويرقص…على أطراف قلبه المكسور.

(يُطفأ الضوء تدريجيًا. تبقى شمعة واحدة مشتعلة في الظلام، ثم تنطفئ. الإضاءة خافتة، تتمايل كأنها شمس في لحظة غروب. الرجل في فراشه، لا نائم ولا مستيقظ. على الطاولة بجانبه دفتر قديم، أوراق مبعثرة، راديو صغير يشهق بأغنية عراقية قديمة لأغنيةٍ تئنّ: ) جم هلال هلن وانت ماهليت

ماهليت…جثيره اعياد مرن وانت مامريت ..مامريت..سنين الصبر حنن حنن وانت ماحنيت..!!

الراوي (بصوت يشبه الصدى):

في الأعماق،حيث لا تصل يدٌ ولا نظرة،

يرتجف صبيٌ صغيرٌ،

ما زال ينتظر أن يُقال له:

لقد فعلت جيدًا، نحن فخورون بك.!!

(يستدير الرجل على جنبه، كمن يعانق الغياب. يهمس دون أن يفتح عينيه، يخاطب الظلمة.)

الرجل:كنتُ أظن أن الشجاعة أن أبقى واقفًا،لكنني اكتشفت أن الوقوف لا يعني الحياة،وأن الجدران التي استندت إليها.كانت تهوي أبطأ من قلبي.

(الضوء يتبدل يأخذه الى عوالم ذاكرته. بيت قديم، فناء ترابي، رائحة خبز، وصوت امرأة تضحك. يُشاهَد الصبي يركض، يسقط، ينهض، ثم يقف عند الباب يراقب الغروب.)

الطفل (من خلف الزمان):

متى يأتي أحدهم ويقول لي:

“لقد كبرت، وها نحن هنا… لنحتفل بك.”؟

هل سيأتي عيدٌ لا أبكي فيه؟!!

( صوت انفجار بعيد، يعود الرجل إلى الحاضر، يرتجف، كأنه يفيق من حلم طويل.)

الرجل (متنهداً):كم من الأعياد تحوّلت إلى فواجع؟

كم من الشموع أطفأتها الريح قبل أن ألمسها؟

يا قلبي، أما تعبت من الانتظار؟

من التذكّر؟

من البكاء المكتوم الذي لا يراه أحد؟

(يسحب دفتره العتيق، يفتحه. أوراقه مُتعبة، كأنها قلوب الكهول. يقرأ بصوت متهدّج.)

الرجل (يقرأ):في عيد ميلادي السبعين،

جلستُ وحدي،

كتبت على الحائط بأظافري:

كل عام وأنا أنجو…،،فقط أنجو.”

(لحظة صمت طويلة، يُسمع فيها نبض قلب، بطيء، حزين. ثم تنهيدة تأتي من داخله، ليست أنفاسًا، بل سيرة حياة.)

الراوي:ليس الجميع يُولد ليُحتفل به،

بعضنا يُولد ليكون الظلّ،

ليُغنّي للراحلين،

ويبتلع الأسى كما تبتلع الجدران رطوبة الشتاء.!!

(يُفتح باب الغرفة قليلاً، يدخل شعاع شمسٍ باهت. يمدّ الرجل يده إليه، كأنه يطلب العزاء من الضوء.)

الرجل:أنا هنا يا شمس،لم أغادر بعد،

كلّ ما في الأمر أنني صرت أكثر شفافية،

كأنني لا أنتمي إلى هذا الجسد بعد الآن.

(يتحول صوته إلى، مشهد سينمائي داخلي: لقطات عشوائية لأحذية قديمة، عيون تبكي، صفحات مُمزّقة من دفتر مذكرات، ثم لقطة مقرّبة لعينيه المطفأتين.)

الرجل (بصوت داخلي):هل كنت بحاجة لصوتٍ يقول لي:لم تُخلق لتكون عاديًا، بل لتكون نورًا في العتمة”؟

لكن من أين يأتي النور حين يتآمر الليل والذكرى والمرايا؟

(الاحلام تتداخل مع صورة البحر، موجه هادئ، رجل يمشي على الرمال وحده. يعود الصوت الداخلي أكثر هدوءًا، كأنّه وجد شيئًا ما.)

الرجل (هامسًا):ربما لم يحتفل بي أحد،لكنني عرفتُ اسمي…

وسمعتُه في صوت الريح،

حين نادتني بلهجة أمّي.

( صورة ظلٍّ واحد، واقف تحت شجرة سدر، لا ينتظر شيئًا، فقط ينظر بعيدًا… حيث لا أحد.: ما بين الحلم واليقظة فضاء رمادي مائي، لا هو غرفة ولا شارع، بل فراغٌ كونيّ خافت الضوء، فيه ضباب خفيف، صوت خافت لطبول سومرية تُقرع من بعيد… يظهر الرجل جالسًا على الأرض، وحيدًا.، يلوح له ظلٌ يقترب.يتكثف الضوء تدريجيًا على طيف امرأة عجوز، تمشي بخفة، لا تلامس الأرض. ترتدي ثوبًا أبيض ساذجًا، في يدها شمعة مضيئة بلهبٍ خافت، لا يرتجف.)

الرجل (ينهض، مترددًا، يرتجف):

أماه؟

أأنتِ؟

لكنكِ… رحلتِ منذ زمنٍ طويل…؟

( يغني) يا امي يا ام الوفه يلبيج عطر الجنة..!!

الأم (بصوت رخيم، دافئ، يخرج كغناء سومري):أنا لم أرحل، يا نبضي،

أنا كنت فيك،في الوجع، في السكون،

في انكسار أهدابك حين لمست الجدران الباردة.أنا الشمعة التي لم تنطفئ، انتظرتك في العتمة… صابرةً، كما عهدتني.

الرجل (ينحني، كمن يريد تقبيل يدها):

كل هذا العمر وأنا أبحث عن دفء،

عن كلمة، عن عيدٍ يُقال لي فيه “كل عام وأنت بخير”،

ألم تسمعي صمتي؟ ألم ترَي وحدتي؟

الأم (تقترب، تضع الشمعة قرب صدره):أي بنيّ،

من لم يُحتفل به في الخارج،

ليحتفل بنفسه في الداخل،

من لم تصفق له الأيادي،

ليجعل دمه ينشد أغنيته،

هل نسيت أننا من سومر،

حيث النواحُ غناء،

والدمعُ طقسًا من طقوس الحياة؟

(تنحني عليه، تلمس جبينه كما كانت تفعل حين كان طفلًا. عيناها تنضحان بحنان أزلي.)

الأم (تُغني ببطء، بنغمة سومرية حزينة):يا ابني… يا تراب الطين الأول،

يا صدى أنكيدو حين يُعيد صراخه في البراري،

يا صمت جلجامش حين تعب من السؤال،

الحياةُ لا تُقاس بالهدايا، بل بالأثر،

والأثرُ لا يتركه إلا من سار وحده.!!

الرجل (عيناه تلمعان بدمعة لم تنزل):

لكنني تعبت يا أمي،صارت ذاكرتي حفرة،وخطاي وهمًا،هل أستحق الشمعة؟

هل أستحقك؟

الأم (تجلس أمامه، تضع الشمعة بينهما):أنت الذي كتبت على الهواء أسماء الذين نسوك،

أنت الذي حملت حبّهم دون أن يطلبوا،أنت… أعمق من عيد،

أنت شجرة زرعتها وأنا أرحل،

وها هي تزهر… بوجعك،وهذا الزهر لا يذبل، حتى وإن مرّت عليه رياح النسيان.

(المكان يضيء شيئًا فشيئًا، لكن الضوء ليس من الشمعة… بل من داخله. الرجل يلمس صدره، يشعر بأنّ النور ينبعث من هناك.)

الرجل (بصوت أكثر اتزانًا):

أنا هو من عبر الصحراء دون خارطة،

من دفن أعياده بيديه،لكنه ما زال حيًا…ما زال يسمعك،ويفهمك،

ويحبك.

الأم (تبتسم، تبدأ بالاختفاء تدريجيًا، تاركة الشمعة مكانها):حين يطفئ الآخرون شموعك،كن أنت النار،

كن أنت العيد…واغفر…حتى لنفسك.

(تختفي، كأنها لم تك. الرجل يجلس ، يضع كفيه حول الشمعة، يهمس لنفسه، بصوت ممتزج بالدمع والنور.)

الرجل:كل عامٍ… وأنا أتذكرني.

كل عامٍ… وأنا أنجو،وكل عام… وهي تأتي من الرماد،كي تُضيء لي ما تبقّى.

(يعلق الضوء ببطء، على صورة رجل وشمعة.لا كلمات…

فقط صوت أنين نايٍ سومري، يشبه بكاء الأرض حين تلد.)

المغني/غريبة الروح لاطيفك يمر بيها

ولا ديره تلفيها

وغدت وي الهجرانك

ترد وتروح

وعذبها الجفا وتاهت حمامة دوح

غريبة الروح!!

( تلك لحظات انهزام لايمكن تجاوزها،ما دمت قد وقفت عند اخر المحطات)!!

 
 
 

Comments


موقع فنون الثقافي

©2024 by موقع فنون الثقافي . Proudly created with Wix.com

bottom of page