تحليل نقدي لرواية "حكايات أبي الرطبة" للقاص والروائي هادي المياح/ للروائي علي البدر / العراق ,,,,,,,,,,,,
- وهاب السيد
- Jun 1
- 6 min read

علي البدر
والتحليل النقدي لرواية "حكايات أبي الرطبة" للقاص والروائي هادي المياح
الرواية، تجربة أدبية مميزة، تجمع بين الحنين والأسطورة والفلسفة، بكتابة مكثفة وعميقة. الرواية تُصنَّف ضمن "الرواية القصيرة جدًا"، لكنها تتجاوز هذا الوصف لتلامس الأسطورة الرمزية The Allegorical Myth كُتِبِتْ بلغة شاعرية، متدفقة ومشحونة بالإيحاءات implications ، حيث يغدو السرد فعلًا شعريًا لا مجرد نقل للحكاية بل رؤية فلسفية وجمالية. شخصيات ورموز متعددة تتراوح بين الأب، رجل الظل، الابن، الواحة، الفالة والذئب... رموز بشرية وأخرى غير بشرية أعطيت روحًا ضمن عملية أنسنة personification محسوبة بأسلوب لافت. أدوار رسمت بدراية وحنكة. وشخصية الأب في رواية "حكايات أبي الرطبة" لـ هادي المياح تُعد من أبرز الشخصيات التي تؤسس لبنية السرد Narrative structure وتضفي عمقًا وجدانيًا وإنسانيًا على أحداث الرواية. وهي شخصية مركبة تعكس أبعادًا متعددة: الذاكرة، الحنين، السلطة الأبوية، الحكمة الشعبية، والضعف الإنساني.
إن الأب في الرواية رمزٌ للذاكرة الجمعية وليس فقط والدًا بيولوجيًا، بل يمثل جيلًا بأكمله، عاش تقلبات الحياة العراقية بين الريف والمدينة، بين القيم الأصيلة والتحولات الاجتماعية. من خلاله تُستعاد صور الماضي بكل تفاصيلها الحية. "كان أبي إذا تحدث عن النخل، سال الماء في عينيه. كأنه لا يرى الشجرة، بل يراها وهي تربيه بظلها، وتطعمه من تمرها" ص: 18 إن هذا الاقتباس يوضح كيف يُجسد الأب العلاقة الحميمية مع الأرض، خصوصًا النخيل، التي تحولت إلى رمز روحي في الرواية. ويلعب الأب أيضا دورَ الراوي داخل الرواية، راوي الحكايات اليومية البسيطة التي تنطوي على حكمة، وعِبَرٍ غير مباشرة. وتكتسب الرواية عنوانها من "حكاياته الرَّطِبَة"، أي المبلّلة بالحنين والإنسانية. "كان أبي لا يُحسن القراءة والكتابة، لكنه يعرف كيف يقرأ الوجوه، ويكتب القصص على الرمال قبل أن تمحوها الريح" ص 24. وتُظهر هذه العبارة قدرة الأب على توصيل الموروث الشعبي والروحي دون الحاجة للأدوات الأكاديمية. ورغم ملامح القوة المرتبطة غالبًا بالأب في السرديات التقليدية، فإن هذه الرواية تُظهره أحيانا في لحظات تأمل وانكسار، خاصة حين يتأمل تغير الزمن، أو يواجه مرضًا أو غربة داخل بلده.
أبي صار يتحدث مع نفسه كثيرًا، كأنه يراجع فصولًا من كتاب لم يكتبه، لكنه عاشه.. يكشف ذلك التحول في شخصية الأب من راوٍ موجه إلى ذاتٍ منهكةٍ تسترجعُ ماضيها لتقاوم عزلتها. وكقيمة تربوية وأخلاقية فاعلة، يمثل الأب ضمير العائلة family conscience، وصوتها الأخلاقي، وغالبًا ما يُستشار في الأمور الحياتية رغم تقدم الأبناء في العمر. تعكس الرواية احترام الجيل الجديد لتلك القيم حتى إن بدت بسيطة أو تقليدية. . كان الاب يُجسد الحكمة المتوارثة، ويغرس القيم بطرق غير مباشرة ومحكمة لصياغة تشبه الأمثال الشعبية. وتتجاوز شخصيته البُعد الفردي لتصبح رمزًا للريف العراقي، وللوطن المغترب عن نفسه، ولذا تُحاط الرواية كلها بجو من الحنين الممزوج بالحزن، حيث تتداخل صورة الأب بصورة العراق المتعب، الصامد. "كان أبي يقول: لا تموت النخلة إلا إذا اختنقت جذورها، ونحن نختنق كل يوم، لكننا نعيش." ص: 59 الأب في "حكايات أبي الرطبة" شخصية محورية تتقاطع فيها التجربة الشخصية بالتجربة الوطنية والإنسانية. إنه ذاكرة حية، وحكّاء، ومربٍ، وصوت حكمة، يعاني من الزمن ويفتش عن جذوره في أرض آخذة في التغيّر.
وقد استطاع هادي المياح أن يمنح هذه الشخصية بعدًا إنسانيًا عميقًا دون أن يغرق في المثالية idealism أو الرمز المجرد. ونتعرف على رجل الظل وظهوره الغامض عندما يقول الأب: "ذات مرة، واجهتُ شيئًا ليس ذئبًا ولا سمكة... بل يقال إنه رجل الظل." يا ترى، ما سره وكنه وجوده في الرواية ومدى المسار الذي اتخذه ليكون محورَ تحدٍ وإرادة؟ انه ليس شخصية حسية بقدر كونه معنىً رمزي يجسد الجانب المظلم في الذات الإنسانية، أو ما يسميه كارل يونغ بـ "الظل "shadow ، ويمثل ذلك الإحساس الذي في أعماقنا والذي نتردد من مواجهته لأننا نخاف منه، وما نتجنبه من أسئلة وجودية أو ذكريات مؤلمة. هيئةُ شبحٍ بلا وجه، مما يشير إلى عدم وضوح ملامحه في الوعي نتيجة عدم وضوح الرؤيا في المواجهة، لكنه حاضر في اللاوعي، خلال عناصر رمزية دلالية.
وعند مجانبة نظرية التحليل النفسي لسيجموند فرويد Sigmund Freud نفهم أن اللاوعي unconsciousness خزينٌ لكل الخبرات التي نتفاعل معها في حياتنا اليومية، وابعادٌ للأفكار والرغبات غير المطمنة والتي قد تسبب تهديدًا للفرد حيث يحاول الضمير اللاشعوري كبتها لخلق التوازن بين الفرد وبيئته. وعندما يعم الهدوء ويختلي الفرد مع نفسه، في منتصف الليل مثلا، يظهر من خلال افكار وتوقيت لأسئلة وجودية تحتم الإجابة عليها مواجهة مع الذات وبشجاعة. يختفي إذا نظرت إليه مباشرة لأن مواجهة الظل الداخلي تتطلب شجاعة. رجل الظل في الرواية، تساؤل عن معنى الكتابة والذاكرة والهوية. روايةٌ أحد معانيها معالجة علاقة الإنسان بظله ومخاوفه وضرورة الحسم في مواجهة الذات وتستدعي اللاوعي الجمعي بطريقة تشبه أعمال بورخيس وكافكا، لكن بلمسة عراقية مشبعة برائحة الطين والنخيل.
كما وتبرز شخصية الابن كرمز للبراءة والدهشة، حيث يمر بتجربة نفسية عميقة تعكس صدمة اكتشافه لحقيقة أبيه، مما يؤدي إلى تحوله من مشاعر الإعجاب إلى النفور aversion. هذا التحول يتجسد في النهاية الرمزية للقصة، لما يمثله الأب من قيم أو أفعال. الكاتب يوظف أساليب سردية متنوعة، تجمع بين السرد والحوار والوصف الداخلي والخارجي، مما يضفي عمقًا على شخصية الابن ويعكس تعقيد مشاعره وتطورها.
إن سهولة الألفاظ وعمق المعاني تسهم في إيصال التحولات النفسية التي يمر بها الابن بشكل مؤثر. ومن خلال هذه الشخصية، يُسلط المياح وبذكاء لافت، الضوء على الصراع الداخلي الذي يعيشه الطفل بين الإعجاب والرفض، وبين البراءة والوعي المتنامي، مما يجعل من شخصية الابن محورًا لفهم التحولات النفسية والاجتماعية في سياق الرواية. إنه مستمع مأخوذ بالسرد الأبوي: "أنا الصائد الجائع للكلمات، الذي ينتظر الدور ليحتل موقعه."ص13 هذا الاقتباس يُظهر العلاقة في بدايتها، حيث يتجسد الابن بوصفه مستهلكًا نهمًا للحكاية، طفلًا مأخوذًا بعالم الأب الأسطوري. شخصيته لا تزال تتكون، ممتزجة بالإعجاب والانبهار. ومع تزايد الوعي يبدأ التغير والتساؤل: "أحسست أن في كلامه فجوات، ربما... أبي، هل تريد أن تُصَرِّفَ عليَّ أحلامك؟" ص35 هنا تبرز لحظة وعي أولى primary consciousness. الابن يطرح تساؤلاً شجاعًا يكشف عن بداية تحرّره من أسر الحكاية. يتحول من متلقٍ منبهرٍ إلى ناقدٍ متسائلٍ، يشككُ في حقيقة القصص التي لطالما صدّقها. وبالنتيجة النفور الرمزي العميق من إرث الأب: "هل أن الدفتر سحري حتى يميز الحكايات الحقيقية عن غيرها؟" ص54. "أتذكر أنني قبل أن أغفو، سمعت صوت أنياب تخدش خشب الأرضية." الرمزية هنا تكثف مشاعر الارتياب التي باتت تسيطر على الابن. الذئب الذي لطالما ارتبط بصورة الحكاية الآن يدخل عالمه ويعيث فيه، مما يعكس تهديدًا لإرادته أو ذاكرته الذاتية، ورغم ذلك يبقى التأثير واردًا حيث التحول وتحمل الإرث: "وفرائي هو جلدك. الآن أنت الذئب الجديد" ص61.
هذا المشهد المفصلي يوضح أن الابن قد ورث العبء واللغة والسرد : "فإذا عوى الذئب، اقرأوا له قصيدة" ص67 . مشهد يوضح أنه لم يعد الطفل ذاته. لقد أصبح هو "الذئب الجديد"، وتحمل ما لم يفهمه بعد. أصبح السارد القادم، لكنه سارد يشكّل لغته بحذر. هكذا أمور تسير عندما نتصور مجتمعًا يقوده ذئب ليصبح قدوة لابد من الآخرين الامتثال لإرادته. منحنىً نفسيٌّ مركب، يبدأ بالإعجاب ثم يتدرج عبر التساؤل والخذلان حتى يبلغ ذروة التحول، فيتبنى الحكاية لكنه لا يعود كما كان. يصبح حاملًا للتركة، لا كمقلد، بل كمجدد لها على ضوء شكوكه وتجاربه الذاتية. وهذا يجعل منه شخصية ديناميكية تعبّر عن صراع الأجيال، والانتقال من الطفولة إلى الوعي، ومن التلقي إلى الإنتاج. ذئبٌ يروح ليرثه آخر أشرس منه. كائن بعقل بشري ثاقب وغرائر ذئب شرس فتاك حيث تسود شريعة الغاب، ولا عجب، دول يدَعي قادتها الإنسانية والتحضر، تفتك وتسفك الدماء وبشراسة يخجل منها الذئب نفسه.
وتبرز الواحة كبيئة ومكان وهي بالحقيقة رمز أكثر منها مكان جغرافي، رمز للباطن الإنساني الغامض. انها مجال للاختبار والعبور والتحوّل ضمن فضاء أسطوري تسكنه كائنات رمزية: الذئب، السمكة ورجل الظل. والرحلة إلى الواحة تشبه طقسَ عبور Initiation يمر به الابن ليتحول من متلقٍ للحكاية إلى خالق لها. وخلال ثنائية المعنى، يبرز لنا الذئب والفالة: الذئب : ليس حيوانًا بل كيان رمزي مركب، يمثل الخطر، الحكمة، الوعي، وربما الموت بينما الفالة : ليست أداة صيد فقط، بل رمز للهوية، للقدرة على المواجهة، للسلاح الداخلي الذي نرثه. وعليه من الممكن تلخيص فلسفة الرواية خلال جملة واحدة "الوعي ليس نسيان الخطر، بل هو معرفة متى تظهر الأنياب ومتى تختبئ." والحكاية لا تُحكى لأيّ أحد، ولا في أيّ وقت. تُشبه الذئاب: حرة، متمردة، غير قابلة للأسر أو الترويض. وتنمو مثل البذور، ويجب على القارئ أن يحمل أثرها كي تُكتب، وهذا يجعل من الحكاية "كائناً حياً"، وليس مجرد نص.
ونهاية الرواية تمثل اكتمال دورة التحول: الابن يرى ظله ذئبًا ويكتب بدمه لا بحبره. تحول رمزي من مستمع إلى راوٍ. من ابن إلى وريث الحكمة. من إنسان عادي إلى صانع أسطورة. كما تتكرر "الفالة" في مشاهد متعددة: في يد الأب دائمًا. قربها عند النوم يمثّل استعدادًا للدفاع أو الصيد. تُورث للابن لاحقًا . فهي رمز للهوية والوراثة وليست فقط أداة صيد بل علامة انتماء وسلاح داخلي. توريثها من الأب للابن يُمثّل نقل الخبرة والحكاية والقدرة على المواجهة. رمز للكتابة وخلق الحكاية.
في النهاية، يقول الأب "أما الفراء فهو جلدك، وأنت الذئب الجديد… والدفتر." أي أن الفالة التي كانت أداة صيد، تصبح أداة كتابة ورمزًا للحكاية الحقيقية والوعي الحاد، أي أن الوعي بالألم والحكاية الحقيقية أشد فتكًا من السلاح المادي. وعند مقارنة الفالة برجل الظل: الفالة تقف نقيضًا لرجل الظل: رجل الظل: التهديد الغامض، الجانب المظلم. الفالة: الدفاع، الإدراك، الوعي. لكنه نقيض لا يستغني عن الآخر، لأن الرواية تؤمن أن الحكاية الحقيقية تُخلق حين يمتلك الإنسان فالةً تَعْبُرُ به من عالم الظل الى عالم الواقع. الرواية تقول ببساطة مدهشة: لا يمكنك أن تكتب حكايتك أو تواجه العالم دون أن تمر أولًا بظلّك، وتقبض على "فالتك"، تلك الحكمة المغمسة بالخوف، والتجربة، والدم. "حكايات أبي الرطبة" ليست فقط رواية قصيرة، بل هي قصيدة سردية، وصية حكائية، ومرآةٌ للذات في صحراء المعنى. فيها كل شيء: الحياة، الموت، الذكرى، الرعب، والولادة من رماد الحكاية.
علي البدر Ali Albadr
Comments