top of page
Search

اشارة توضيحية / عاتكة الخزرجي والعباس بن الاحنف / للروائي شوقي كريم حسن / العراق ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

  • Writer: وهاب السيد
    وهاب السيد
  • Feb 7
  • 5 min read



عاتكة الخزرجي،،والعباس بن الاحنف،،،: حين يقع العشق خارج الزمن”

اشارة توضيح/شوقي كريم حسن

عاتكة الخزرجي، شاعرة تُشبه الغيمة حين تهطل بالعذوبة، والموسيقى و تهمس بالأسرار. قالت إنّها ستتزوّج العبّاس بن الأحنف لو كان حيًّا، لم يك ذلك مجرّد تفضيلٍ لشاعر على آخر، بل انحيازًا لطهر الحبّ حين يُجرَّد من الغرض، وعندما يصبح العشق بذاته غاية لا وسيلة.إنها لم ترى في شعره مجرّد كلماتٍ منمّقةٍ أو أوزانًا رشيقة، بل ترى فيه مرآةً لقلبها، لصوتها، لذلك الإحساس النبيل الذي يتألّم في الصمت، ويضيء في العتمة. العبّاس بن الأحنف عاشقًا لا يُساوم، رجلًا يكتب للمرأة كما لو يكتب لصلاة، وكأنّ الحبّ عنده طقسُ تطهّر لا نزوةُ جسد. ومِن هذا النبع ذاته كانت عاتكة تغترف، فمن يقرأ شعرها يرى أنّها لم تكن تميل إلى النواح على الأطلال كما فعل القدماء، ولا إلى الفجاجة كما فعل بعض المحدثين، بل سارت بين هذا وذاك على جسرٍ من النقاء، كما فعل العبّاس من قبلها.

الحبُّ العذري الذي انسكب من قلوب بعض الشعراء لم يكن زهدًا في الجسد، بل كان ولعًا بالروح، وكان خوفًا من أن تنطفئ جذوة العشق بعد الامتلاك. كل حبٍّ كبيرٍ يحمل في داخله هذا التناقض العجيب: الرغبة في القرب، والخوف من أن يفسد القرب ذلك البريق المقدّس الذي يشعّ من البعد. ولعلّ هذا هو ما أسر قلب عاتكه في شعر العبّاس، إذ وجدت فيه صورةً للحبّ الذي لا يخضع للمساومة، للعشق الذي يسمو بالروح بدل أن يُثقِلها.إنّ من يكتب الحبَّ بهذه الطهارة، ومن يراه في جوهره صوفيًّا لا حسيًّا، لا بدّ أن يسحر القلوب التي تؤمن بأنّ في الحبّ شيئًا أبعد من اللذّة وأعمق من الرغبة. ولعلّ عاتكة، وهي تقول قولتها تلك، لم تكن تبحث عن رجلٍ بقدر ما بحثت عن صدقٍ يشبه صدقها، وعن حبٍّ لا يموت حتّى لو مات صاحبه. ذلك أنّ الحبَّ في جوهره ليس لقاء الأجساد، بل ارتقاء الأرواح إلى مقامٍ أسمى، حيث يصبح العشق صلاة، والاشتياق عبادة. عاتكة الخزرجي لم ترى في العبّاس بن الأحنف رجلًا فحسب، بل ترى فيه أيقونةً للحبّ النقيّ، الحبّ الذي لا يساوم، ولا يطلب مقابلًا، ولا يطفئه الوصول. كان العبّاس في شعره العاشقَ الذي يكتفي بالحزن لأنّه في ذاته صورة للحبّ حين يبلغ ذروته، و يُنشد شوقًا لا ينتهي، ورغبةً لا تتحوّل إلى تملّك. لم يكن شاعرًا متلهّفًا للقاء بل شاعرًا يقدّس الفقد، ويتعبّد في محراب الانتظار. وهذا ما سحر قلب عاتكة، فهي ابنةُ الشعر الذي لا يعترف بحدود، وروحٌ تمتلئ بالعاطفة كما تمتلئ السماء بالنجوم، وكان من الطبيعيّ أن تجد في العبّاس بن الأحنف صدى لنقائها الداخليّ، ومرآةً لوجدانها الشفيف.هذا الحبُّ الذي يُحلق في سماء الشعر لا يحتاج إلى زمانٍ أو مكان، بل يظلّ خالدًا في الذاكرة مهما مرّت الأجيال. إنّه الحبّ الذي ينجو من الغرائز، ويزدهر كلّما احترق صاحبه في نار الشوق. ولعلّ عاتكة، وهي تتمنّى لو ان العبّاس حيًّا لتتزوجه، ما قصدت الزواج بوصفه رابطةً اجتماعيةً، بل تحدّثت عن لقاء الأرواح، عن ألفةٍ عميقة تتجاوز الحاضر والماضي، وتجمعها بشاعرٍ لم تعرفه، لكنها أحبّت صوته في الكلمات، ورأت فيه النقاء الذي ندر في هذا العالم.إنّها لحظةٌ من لحظات الشعر الخالص، حين يشعر الإنسان بأنّ الروح يمكن أن تهيم حبًّا بأرواحٍ عبرت منذ قرون، وبأنّ الحبّ الحقيقيّ لا يموت، بل يبقى صدى يتردّد كلّما قرأنا قصيدةً صادقة، أو عثرنا في الحروف على أنفسنا. الحبُّ الذي رأته عاتكة الخزرجي في العبّاس بن الأحنف لم يك مجرّد حنينٍ إلى شاعرٍ قديم، بل انجذابًا إلى تلك العاطفة الصافية التي تجلّت في شعره، إلى ذلك النقاء الذي لم تشُبه الأطماع، وإلى ذلك الحزن الذي لم يك ضعفًا بل جوهر الحبّ حين يكتمل. كان العبّاس رجلًا عاشقًا في زمنٍ لم يعترف بالعشق إلا بقدر ما يقود إلى الامتلاك، لكنه مختلفًا، فقد أحبّ بقلبٍ امتلأ بالشوق ولم يطلب لقاء، وناجى طيف الحبيبة ولم يطمع في أكثر من ظلّها. حبّه تساميًا لا خضوعًا، وجده أغنيةً تفيض بالحزن الجميل:

“يُكلّفني فُؤادي من هَواهُ

فما أدري أَصَبرٌ أم جُنونُ؟”

هذه الحيرة التي تسكن قلب العاشق، وهذا التيه بين الصبر والجنون، هو ما جعل الحبَّ عند العبّاس لا يخضع لمنطق، بل يصبح قدرًا لا فكاك منه، وتحوّل الفراق من محنة إلى هوية، إلى كينونة يسكنها الشاعر كما يسكن الطير سماءه.أحبّ العبّاس امرأةً لم تترك له سوى الذكرى، و يكفيه أن يراها من بعيد، أن يعرف أنّها على قيد الوجود، رغم أنّها لم تبادله ذلك الشعور. ومع ذلك، لم يكن عتابه لها قاسيًا، بل مليء بالرقّةً التي تمتزج بالحزن، وخضوعًا جميلاً أمام جبروت الهوى:

“فَما زِلتُ مَشغولَ الفُؤادِ بِذِكرِها

إِذا قِيلَ هَذا ذاكَ أَبلَغَهُ عُذري”

هكذا العبّاس عاشقًا يقنع بالذكرى، يكفيه أن تُقال له كلمةٌ تُشبه اسمها، أو أن يمرّ بطريقٍ يشبه الطريق الذي تمشي فيه، والعشق النبيل هو ما سحر قلب عاتكة، وجعلها تتمنى لو أنها عاشت في زمانه، حيث الحبُّ لا يُباع ولا يُشترى، بل هو مقامٌ من مقامات الروح.إنّها تلك الرقّة التي تذوب في الحروف، وذلك الشوق الذي يبقى نديًّا مهما مرّت السنوات، هو ما جعل شعر العبّاس بن الأحنف خالدًا، وما جعل عاتكة، وهي الشاعرة التي تفهم كيف تشتعل الكلمات بالعاطفة، ترى فيه الحبيبَ الذي لم تلده الأقدار، ولكنه بقي يسكن القصيدة، يهمس في الأذن بكلماته الرقيقة، ويثبت أنّ الحبّ حين يكون صادقًا، فإنه لا يموت، بل يظلّ يسكن القلوب التي تعرف كيف تحبّ.

الحبُّ عند العبّاس بن الأحنف لم يك نزوةً عابرة، ولا مجرّد شكوى من لوعة الفراق، بل حالةً من التسامي، سكينةً في الألم، ورُقيًّا في الحزن. لم يطلب من محبوبته أكثر من أن تكون كما هي، لا يريد منها لقاءً قسريًّا، ولا عتابًا قاسيًا، بل يكتفي بأن تبقى ذكرى حيّة، أن يراها في الخيال، أن يمرّ ببابها، أن يسمع اسمها في حديث العابرين، فتنتعش روحه بذلك الحضور البعيد القريب.وفي قصيدته، يبثّ قلبه عذاباتٍ ناعمة، يشكو الحبَّ كما لو يباركه، ويتألم كما لو يجد في الألم لذّته الخفيّة:

“وإني لأهوى النوم في غير حينه

لعلّ لقاءً في المنام يكونُ”

أيُّ حبٍّ هذا الذي يجعل النوم نفسه أملًا، والخيال بديلاً عن الواقع، واللقاء في الحلم أمنيةً تتجاوز كلّ الأماني؟ هذا هو العشق الذي يفيض طُهرًا، العشق الذي جعل عاتكة الخزرجي تتمنى لو عاشت في زمنه، حيث الحُبّ لا يحتاج إلى المظاهر، بل يكفيه القلب، ويكفيه أن يظلّ حيًّا في الكلمات، كما ظلّ العبّاس بن الأحنف يذوب في شِعره، ويُسقي الأجيال بعده هذا الحنين الشفيف.ولم يكن حبّه استجداءً، بل كان كبرياءً نادرًا، كبرياء العاشق الذي يعرف أنه لن ينال، لكنه يرفض أن ينحني، يقف أمام الحبّ كأنه مصيرٌ محتوم، يتألّم، لكنه لا يفقد وقاره، ولا يسمح للحزن أن يُذلّه، فهو القائل:

“سأُكتمُ حبّي ما حييتُ، وإن أمتْ

يُنازعُ بعدي مَن أُحبّ حبيبُ”

هذا الوفاء الذي يمتدّ حتى بعد الموت، وهذه الثقة بأن الحبّ لا يضيع حتى وإن لم يكن متبادلًا، هو ما جعل العبّاس يعيش في ذاكرة العشّاق، وما جعل عاتكة ترى فيه روحًا تُشبه روحها، شفافيةً تُحاكي شفافيتها، وقلبًا لم يُلطّخه طمعُ الرجال في الاستحواذ، بل ظلّ أبيض كقصيدةٍ لم تُكتب بعد.

إنّ الحبّ الذي كان يُغنيه العبّاس لم يكن زمنه الماضي وحده، بل لكلّ زمانٍ يبحث فيه الناس عن نقاءٍ ضائع، عن عشقٍ يُشبه الحلم، عن شاعرٍ يُغنّي للروح بدل أن يُطالب الجسد. وحين قالت عاتكة الخزرجي ما قالته، لانها تعبّر عن توق المرأة إلى أن تجد في الحبّ طهرًا كالذي غنّاه العبّاس، عن حنينها إلى العشق الذي لا يُساوم، عن رجلٍ يحبّها كما أحبّ العبّاسُ محبوبته، بصمتٍ، برقةٍ، بسموٍّ لا يعرف الابتذال.

وربّما لم يكن العبّاس بن الأحنف يعرف أن قصائده ستعيش بعده قرونًا، وأنّ امرأةً في زمنٍ آخر ستقول عنه ما قالت، لكنّ الشعر الصادق لا يموت، والحبّ حين يكون نقيًّا كهذا، لا يعرف الفناء، بل يظلّ حيًّا في القلوب التي تُدرك معناه، كما ظلّت عاتكة الخزرجي تُردّد صدى روحه، و هي عاشقةٌ من عُشّاقه، وان لم تك في زمانه!!.

 
 
 

Comments


موقع فنون الثقافي

©2024 by موقع فنون الثقافي . Proudly created with Wix.com

bottom of page